في 25 أيار/ مايو الماضي مرّت الذكرى الخامسة والثلاثون لتأسيس مجلس التعاون الخليجي. احتفى الإعلام الرسمي، وإن في أطر ضيقة، بنشر مقالات وبثّ برامج أشادت بما "حققه العمل الخليجي المشترك من إنجازات في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية". وبالمقابل، لم تثر المناسبة اهتمام مواطني بلدان المجلس، فهو تأسس بقرار سياسي اتخذه الحكام دون مشاركة عامة بأي شكل من الأشكال، واستمر طيلة السنوات الماضية شأناً خاصاً بالعوائل الحاكمة وحدها، فيه تَعقد اتفاقاتها وتَحِل خلافاتها وتُناقش أمورها المشتركة.
وكما لم يتأسس مجلس التعاون بإرادة شعبية فهو لم يتحول طيلة الخمس وثلاثين سنة الماضية إلى مشروع شعبي ليس متاحاً حتى الآن للمواطنين مناقشة أموره أو التنسيق عبر الحدود لمواجهة قضاياهم المشتركة، الاقتصادية والسياسية أو حتى البيئية. وفي أحيانٍ كثيرة، تتحول محاولات التنسيق الشعبية بدون رضا الحكام إلى مغامرات محفوفة بالأخطار قد تؤدي إلى السجن، ناهيك عن شبهات خدمة أطراف خارجية. والحال كذلك، لا ينظر المواطن العادي إلى "إنجازات المجلس"، كما أشار الباحث البحريني غسان الشهابي، إلّا في أمور بسيطة مثل التنقل بين الدول الأعضاء فيه بالبطاقات الشخصية بدلاً من جوازات السفر.
إيران: سقوط الشاه وما تلا
تمّ الإعلان عن تأسيس " مجلس التعاون لدول الخليج العربية" خلال اجتماع حكام دول الخليج العربي الست في أبو ظبي في 25 ــ 26 أيار/ مايو 1981. لم يشارك المواطنون ولا النخب السياسية في المشاورات والجهود التمهيدية للإعلان. ولم يهتم الحكام باعتراضات وتحفظات طرحها وقتها عددٌ من القوى السياسية. حدد البيان التأسيسي جملة أهداف للمجلس، أوّلها "تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها". وكان لافتاً بشكل خاص أن البيان تحاشى الإشارة إلى "البعد الأمني" في مهمات مجلس التعاون وأهدافه. إلا أنّ ذلك التحاشي لم يتكرر في بيانات القمم الخليجية التالية التي شكل الموضوع الأمني/ العسكري بؤرة اهتمام أغلبها.
كان بيان التأسيس محاولة لتسوية التباين بين توجهَيْن رئيسَيْن تجاذبت حولهما الدول الست: ما هي أنجع أساليب التعاطي مع التداعيات الاستراتيجية لثلاثة أحداث تاريخية شهدتها المنطقة في السنوات القليلة السابقة. أوّل تلك الأحداث هو الثورة الإيرانية التي أطاحت الشاه، وثانيها الغزو السوفياتي لأفغانستان، وثالثها اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. لكلٍ من هذه الأحداث انعكاساتها المباشرة على الوضع الإقليمي ككل وعلى الوضع الداخلي، بشكلٍ متفاوت في كل دولة من الدول الخليجية الست. سيتناول النص خصوصاً أوّل تلك الأحداث لأهميتها.
لم يتوقع أحدٌ بين حكام الخليج أن يسقط نظام الشاه الإيراني بكل ما لديه من قدرات أمنية وعسكرية وبكل ما يتمتع به من دعم غربي سياسياً وعسكرياً. فتلك القدرات وذلك الدعم أهّلا الشاه لأن يتولى طيلة سنوات قبل سقوطه مهمات "شرطي الخليج" ضمن ما كان يُعرف بالتطبيق الخليجي لـ "مبدأ نيكسون". ولقد شملت تلك المهمات إرسال قواته العسكرية، وبرضا حكام الخليج العرب، لقمع الثورة المسلحة في منطقة ظُفار العُمانية.
كان سقوط الشاه شديد الوقع على حكام الخليج، وخاصة حين تبيّن لهم أن سقوطه لم يغيّر التوجه الاستراتيجي الإيراني تجاه منطقة الخليج باعتبارها مجالاً حيوياً إيرانياً، بل اكتسب هذا التوجه زخماً جديداً أمدّته به شعارات الثورة الإيرانية وطموحات مراكز القوى المتصارعة فيها، وخاصة تلك التي جاهرت برغبتها في تصدير النموذج الإيراني إلى بقية بلدان المنطقة.
أسهم اختلاف الظروف الداخلية في البلدان الخليجية الستة في بروز توجّهيْن أساسييْن لمعالجة تداعيات الوضع الناشئ. ركزّ التوجه الأول على تفعيل التعاون الأمني العسكري عبر اتفاقيات ثنائية وجماعية وتشكيل منظومة موحدة تتولى تنسيق سياسات التسلح وتوحيد مصادر استيراد السلاح والمعدات تمهيداً لمعاهدة دفاع مشترك تضمن "حق الدول الأعضاء في تقديم المساعدة العسكرية اللازمة لضمان أمن وسيادة الدول الأخرى في المجلس ولحماية استقرارها الداخلي"؛ بينما ركز التوجه الثاني على الدور السياسي الاقتصادي للمجلس بتفعيل التنسيق والعمل المشترك في المجالات الاقتصادية والثقافية والنفطية". جاء النظام الأساسي للمجلس كتسوية صياغية بين التوجهَيْن. إلا أنّ تلك الصياغة التوفيقية ساهمت ــ ضمن عوامل أخرى ــ في إفشال محاولات تحويل مجلس التعاون إلى منظّمة إقليمية ذات مصداقية. ومن بين تلك العوامل موروث الخلافات التاريخية بين العوائل الحاكمة، بما فيها النزاعات الحدودية، علاوة على الصراعات الداخلية ضمن كل عائلة حاكمة.
على الرغم من الضعف البنيوي الذي ظل مجلس التعاون يعاني منه، وانعدام الحاضنة الشعبية له، فقد صمد أمام هزات عديدة تعرض لها طيلة عقودٍ عاصفة. يمكن تفسير ذلك بالإشارة إلى مجموعة عوامل من بينها العوائد النفطية التي استخدمتها بلدان مجلس التعاون لبناء قواتها العسكرية والأمنية، ولتمتين نفوذها في دول المنطقة، ولتبوّء مواقع مؤثرة في المنظمات الإقليمية والدولية. أما العامل الثاني فهو اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية. فلقد كانت تلك الحرب، من وجهة نظر حكام الخليج، صراعاً مفيداً لأنه ينهك قوتيْن إقليميتيْن تسعيان للهيمنة على الخليج (أو حسب تعبير انتشر وقتها: "أن تموت العقارب بسُّم ِالثعابين"). أما العامل الثالث وربما الأهم، فهو متانة علاقات دول مجلس التعاون، منفردة ومجتمعة، مع الولايات المتحدة الأميركية. فلقد وفرت هذه العلاقة لدول مجلس التعاون طيلة العقود الماضية غطاءً أمنياً وحماية من المخاطر الخارجية أو الداخلية المحتملة. إلا أن تلك العلاقات بقيت اتكالية وغير متساوية، ثمنها هو بقاء أمن هذه الدول واستقرارها رهينة لتقلبات الخيارات السياسية الأميركية.
الوجود العسكري الأميركي يتوسع
عند تأسيس مجلس التعاون، كان الوجود العسكري الأميركي في المنطقة محصوراً في مركز قيادة الأسطول الخامس في البحرين، علاوة على تسهيلات عسكرية لها في السعودية وعُمان. بعد 35 سنة، انتشر الوجود العسكري الأجنبي في مختلف بلدان المنطقة. فلا تخلو دولة من دول المجلس الآن من قواعد عسكرية أميركية. كما توفّر هذه الدول تسهيلات عسكرية لبريطانيا وفرنسا وغيرهما.
تبدو بعد 35 سنة آثار اتكال دول المجلس على الولايات المتحدة والبلدان الغربية الأخرى كمصادر لسلاحها وتجهيزاتها العسكرية. فعلى الرغم من الضجيج الإعلامي حول "الحزم والعزم"، لا تملك أية دولة خليجية القدرة على تأمين أبسط احتياجاتها العسكرية دون الحصول على الموافقة الأميركية. ولا تزال دول الخليج عاجزة عن تحويل مجلسها إلى منظمة إقليمية ذات مصداقية، تملك قرارها وخياراتها الاستراتيجية. فحتى حين أعلن الملك السعودي "عاصفة الحزم" مدشناً بها تشكيل تحالف عسكري إسلامي/عربي بقيادته، لم يطل الوقت قبل أن يكتشف إنه في حاجة لمراجعة طموحه ليكتفي بحملة عسكرية لا قيمة إستراتيجية لها بدون مباركة الولايات المتحدة الأميركية. ولهذا لا أهمية هنا لحملات الترويج التي يشارك فيها محللون إعلاميون وأكاديميون حول "مبدأ سلمان" أو "الصحوة العربية" أو "اللحظة الخليجية". فهذه وغيرها تروِّج مقولة إن بلدان الخليج، وفي مقدمها السعودية، أضحت مؤهلة وقادرة وعازمة في الوقت نفسه على "خلجنة" المنطقة العربية، أي إعادة تشكيلها سياسياً واقتصادياً وثقافياً.. بل يبالغ بعض أصحابها بالادعاء انها أصبحت قادرة على مد نفوذها إلى مناطق أخرى في العالم.. هي مجرد شعارات وإن كانت مليئة بالحماس.
بعد 35 سنة، فالتحديات الأمنية الإقليمية والداخلية التي تواجه دول مجلس التعاون لا تختلف جوهرياً عما كانت عليه عند إعلان تشكيل المجلس، بل تكاثرت تلك التحديات وازداد بعضها إلحاحاً، وما زال موروث الخلافات التاريخية فاعلاً في استثارة الخلافات المفاجئة، من قبيل ما حدث مؤخراً بين الكويت والسعودية حول المناطق النفطية بينهما، أو من قبيل اتهام دولة بإغراء مواطني دولة أخرى وتجنيسهم، كما حدث بين قطر والبحرين، أو الاكتشاف المتكرر لشبكات التجسس، كما يحدث بين الأمارات وعُمان.
لم يعد التحدي الداخلي الأخطر الذي تواجهه دول المجلس هو الناجم عن تصدير الثورة الإيرانية، بل عن صعود الحركات المتطرفة التي حظيت في السابق برعاية الأنظمة الخليجية إذ استخدمتها أداة لتطويع دول ومجتمعات أخرى. وبسبب توسع نشاط هذه الحركات المتطرفة، لم يعد مأموناً كما في السابق تجنيد أبناء البادية في الجيش وقوى الأمن لقمع حراك الحضر، أو أبناء قبائل سنية لقمع الحراك في قرى شيعية، بل لم يعد مأموناً تماماً تجنيد مرتزقة من بلدان عربية وإسلامية قريبة، مما فرض الاستنجاد بشركات توريد المرتزقة من أفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية. وفوق ذلك، أسهم انخفاض العوائد النفطية في إضعاف قدرة حكام الخليج على استخدام تلك العوائد لشراء ولاء النخب التقليدية وضمان الاستقرار الداخلي.
[يعاد نشره ضمن إتفاقية تعاون بين "جدلية" و"السفير العربي"]